كلمة فضيلة الشيخ حميد المادح
الحفل التأبيني لسماحة العلامة الشيخ سليمان المدني، يوم الأربعاء ليلة الخميس 7/5/2003م
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وحبيب قلوب المؤمنين أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين المعصومين المنتجبين الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
السلام عليكم أيها المؤمنون الطيبون جميعاً ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين وفاطر السماوات وداحي الأرضين القائل في محكم كتابه العزيز وخطابه الحكيم: بسم الله الرحمن الرحيم " تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير(1) الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور (2)". فسبحانه تبارك وتعالى من خالق عظيم ومبدعٍ حكيم أوجدنا سبحانه وتعالى في هذه الحياة من أجل الامتحان والابتلاء ومن أجل أن يظهر كل معدنٍ على حقيقته، فالناس معادن كمعادن الذهب والفضة، ولكن متى يظهر جمال الذهب وجمال الفضة وغيهما من المعادن، أليس ذلك بعد الامتحان والابتلاء، فقبل الابتلاء والامتحان الجميع يبدون بشكل واحد ومظهر واحد، ولكن متى ما غربلت وظهرت هذه المعادن رجع كل معدن إلى حقيقته وهكذا هو الإنسان، فالكل في بداية الأمر يظهر وكأنه إنسان، ومتى تظهر جواهر الأشياء وحقائق الأشياء، إنها تظهر بعد التجربة، بعد الابتلاء، بعد الإمتحان.
ونحن نعيش في تأبين سيدي الوالد العزيز في هذه الذكرى المؤلمة في أعماق القلب، وكم لا يتمنى المرء أن يقف مثل هذه المواقف، ولكن القلوب ترتاح عندما تشعر بأن هذه هي إرادة السيد الأكبر الحق سبحانه وتعالى، الذي يملك نواصي الجميع.
وقد يستعجب السامع من تعبيري عن الفقيد العزيز الغالي بالوالد, وانا اقول انني أقول ذلك عن سبق قصد اردت هذا القول , نعم في الحقيقة لقد كان الفقيد العزيز اكبر من الوالد في حياتي .
لقد عرفته منذ نعومة أظفاري ومنذ السنين المبكرة من عمري , وفي الواقع لم أنظر الى الحياة الا من خلال شخصيته الفذة الكبيرة , فلقد كان لتلك الشخصية العظيمة أكبر الأثر في حياتي , نعم لقد كنت أنظر الى المواقف في الحياة من خلال مواقفه , لقد كان المرشد والموجه لي شخصيا وللكثير من الطلاب والمثقفين والمريدين.
سيدي يا ابا طاهر لقد عرفتك فقيرا ومنذ ان رجعت من النجف الأشرف في منزلك (بعين الدار) ولازلت أتذكر ذلك المجلس الخراب , كنا نجلس مع الفقيد الغالي والأتربة تتساقط علينا من كل مكان , سيدي لقد كنت متواضعا معنا وكنا صغارا ولكنك كنت تحبنا وتحترمنا لأن هدفك هو تربيتنا , ولقد عرفتك يا ابا طاهر وأقبلت عليك الدنيا تريدك , واذكر لكم ذلك في بداية رغبة حكومة البحرين في ان ينضم السعيد الغالي الى سلك القضاء , وأتذكر الى الآن أنك بعثت برسالة إعتذار لإنك تريد مواصلة طلب العلم , ولكن السلطات آن ذاك أصرت عليك ولم تتمكن من الفرار من ذلك , وحتى أتذكر انك يا سيدي لجأت الى الإستخارة من عند الشيخ المرحوم عبد الحسن تغمده الله بواسع رحمته في ذلك الوقت وجائت الخيرة بالإيجاب , وكنت اعرف انك لا تريد الوجاهة والزعامة , ولكنها على الرغم منك اتتك وطوقتك في عنقك ولقد كنت الكفأ الكريم لها , ولكن الكثير من الناس يجهلون مثل هذه الحقيقة , ولكن نحن المقربين منك نعرف ذلك ونسجل ذلك للتأريخ وللأجيال .
سيدي العزيز لقد كنت غريبا في تصرفاتك , ولكن أليس الرسول صلى الله عليه وآله يقول( بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء ).
عذرا احبتي في الإيمان انني لست ممن يود نبش الماضي , ولكن مثل شخصية الفقيد كانت عظيمة جدا ومجهولة , وكانت الكثير من الحقائق مخفية عن الكثيرين , فلقد كنت تبدو سيدي وكأنك من أهل الدنيا , من أهل الترف, تركب السيارة الفاخرة, فيزداد الناس فيك حيرة, ويذكرني ذلك بموقف أحد أئمة أهل البيت عندما شوهد وهو يلبس الثياب الفاخرة من أغلى الأثمان فدخل ذلك في قلوب المحبين , كيف هذا الإمام وهو الزاهد العابد يلبس مثل هذه الثياب , و عرف الإمام (ع) هذا الحال من ذلك الرجل فدخل معه البيت وأراه ماذا يلبس من وراء تلك الملابس الفاخرة, انه عليه السلام يلبس مذرعة الصوف القاسية على جسمه الطاهر .
سيدي لازلت أسمع كلماتك وهي تردد في أذني وهي مضمون الأحاديث الشريفة التي تقول بأن أهل البيت عليهم السلام لا يريدون منا الظهور بمظهر الضعف أمام الآخرين وانما لابد من الظهور بمظهر القوة والعزة أمام خصومنا حتى لا تضعف شوكة المؤمنين.
سيدي العزيز لقد وصفتك في نفسي بانك تقسو في خطاباتك العامة وقلت ذلك لكثير ولك أيضا , ولكني وجدت أن هذه الصفة انما تبرز من أعماق قلبك فأنت تريد النصح للآخرين ومن طبيعتك الصراحة الكبيرة, فهكذا كنت تظهر أمام الآخرين وكأنك تريد الشدة والقسوة بالآخرين والحقيقة هي عكس ذلك.
سيدي العزيز لقد عرفناك رجل المهمات والملمات الكبرى , عرفنا فيك الصلابة والقوة في الإيمان وعرفنا فيك البصيرة الثاقبة للأشياء وعرفنا فيك الرأي الصائب وفي التوقيت المناسب.
سيدي العزيز لقد عشنا معك وعرفناك أنك تعيش الإسلام في اعمق أعماقك, كل شيء فيك إسلامي حتى في تسميتك لأبنائك اسلامي , انك يا سيدي كنت تعشق الإسلام , وكنت ادرك منك ذلك في مواقفك ,في مشاريعك , تريد العلو للإسلام, تريد العزة للمؤمنين أبدا , وانما هذا هو همك وشاغلك ليلا ونهار , حتى ضحيت من أجل الإسلام بكل شيء .
فيا ايها الأعزاء في الإيمان ما عسانا ان نستفيد من هذه المدرسة الإسلامية الحافلة في كل مجالات الحياة, الأخلاقية والإجتماعية والسياسة وغيرها , نعم لقد كان مدرسة متميزة عن غيره من الأقران.
لقد احببناك جميعا يا ابا طاهر وانت اليوم قد رحلت عنا ولكن هل الموت يفني المبادىء والقيم, انظروا الى أبي عبد الله الحسين عليه السلام فلقد مزقته بني أمية أشلاء ولكن الشاعر يقول :
كذب الموت فالحسين مخلد كلما اخلق الدهر تجدد
يموت الكافر اما المؤمن ففي موته حياة وتجدد فنحن نحزن لألم الفراق والا فالفقيد الغالي لم يمت والدليل واضح , فها هي الجماهير تهتف باسمك تهتف بالمبادىء وبالقيم التي كنت تنادي بها , ان الفقيد الغالي حي بيننا ونحن نشعر بالفرح والبشرى لروحه التي لا تزال غضة طرية , فيا أحبتي ويا اخوتي لا تبكوا عليه وانما افرحوا واسألوا المولى العلي القدرير ان يتقبل منا جميعا هذا القربان العظيم.
ماذا تعلمنا من مدرسة ابي طاهر طيلة هذه السنوات, انا اعرف وادرك أن هناك حبا جما لذلك الفقيد الغالي ومن يعرف شخصيته فلا يحبه لا يفعل ذلك الا مكابر .
ان الدرس الذي علينا وعيه تمام الوعي هو هذا الحب , لماذا انتم ونحن جميعا نحب هذا الفقيد, هل لإنه يملك كذا وكذا , كلا ليس كذلك , اننا نحبه لأنه علمنا كيف نجسد العلاقة والمحبة لله تعالى , في كل تصرفاته وفي كل سلوكياته انه دائما يحاول ان يعيش السلوك الإسلامي العملي وهذا هو المميز لشيخصيته , فهو يريد دائما ان يرسم لنا صورة حية للحب الإلهي , وإلا فكيف نفسر مثل هذا الصمود والثبات على الخط الإلهي المستقيم في تلك المحنة التي مرت علينا, الكل تزلزل او كاد ان يتزلزل من شدة وطأتها, ولكنه بقى صامدا صابرا وهو يحمل شعار التوحيد "لا اله الا الله" , نعم لقد كان يحارب الوهية البشر لبعضهم البعض عندما كان يصر على ان يكون المرجع هو دين الله , الحاكمية لله تعالى , وإن وقف البشر كلهم وقفة الرجل الواحد ضده, فلم ينهزم ولم يلق السلاح , وإنما بقي صامدا حتى النهاية .
هذا عن ماذا يكشف , انه يكشف عن الحب لله تعالى , اذا نحن اليوم وغدا وفي كل وقت بحاجة ماسة الى هذا الدرس, أن نكون مع الله , فمن كان مع الله كان الله معه , لإن الحق يقول وقوله الحق (والعاقبة للمتقين) , أمير المؤمنين الدنيا كلها وقفت في وجهه ولكن هل انهزم امير المؤمنين أم انه في كل يوم له انتصار, وهكذا السائرون على درب الله تبارك وتعالى , على درب الإخلاص للحق سبحانه وتعالى , يسجلون الإنتصارات في الحياة وسوف تشهد لهم الحياة بذلك.
اننا ايها الأعزاء ومن على هذا المنبر الشريف ندعوا الإخوة الذين اختلفنا معهم في تلك المحنة الى العودة جميعا وسويا الى الصف الإيماني تماما كما كان العهد قبل المحنة, وان نفتح القلوب بالحب لبعضنا البعض تحت مظلة الإعتصام بحبل الله جميعا وعدم التفرق لإننا قد عشنا التفرق والتشرذم والإنقسام , ودعونا نتجمع ونتوحد تحت الشعار الذي يوحد المؤمنين والمسلمين انه كلمة "لا اله الا الله" , كلمة الإسلام, ودعونا نترك عنا كل الشعارات الأخرى التي لا توصل الى أي نتيجة تذكر .
اننا يا والدنا العزيز أدركنا ومن خلال كلامك كنت تود ان ترى الإمتداد الصالح لك وهو يسير على نفس الدرب وعلى نفس الخط, فها هو الطاهر ابنك محمد طاهر قد تقلد الإمامة للجمعة التي كنت تحبها وتشتاق اليها , فنحن نسأل من الله تعالى ان يقر بهذا الولد الصالح البار عينيك , وأن يجعله الخلف الصالح المبارك الذي يحمل راية الجهاد من بعدك انه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير , ونحن نقول لك اننا سوف نجعله في قلوبنا , نحافظ عليه كما نحافظ على أنفسنا وابنائنا .
وفي كلمة الختام , اتوجه للمولى العلي القدير سبحانه وتعالى بأن يعلي من درجات فقيدنا الغالي العزيز وان يسكنه الفسيح من جناته.
وأتوجه كذلك بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن إخواني طلاب الحوزة العلمية في جدحفص المباركة وعن جميع اخواني المؤمنين الى الأخ العزيز صاحب الفضيلة عميد أسرة المدني الشيخ محمد طاهر المدني والى اخوانه جميعا وجميع افراد اسرته بالعزاء الحار, سائلا المولى العلي القدير ان يلهمهم الصبر والسلوان بهذا المصاب الجلل وان يجعل ذلك خاتمة السوء بهم جميعا .
وفي الختام اتوجه بالشكر الجزيل للجميع للمشاركة والحضور سواء كان ذلك من الجماهير المؤمنة او من الرسميين.
ورحم الله من قرأ لروح الفقيد الفاتحة.