عندما يكون التاريخ على المائدة

بقلم – حصان طروادة:
إن استدعاء القصص والمثولات والأحداث التاريخية وتضمينها، سمة غالبة في الخطابة والكتابة، بل حتى القرآن الكريم نزل بكثير من (أحسن القصص).
كما يعتبر الاستشهاد والتنصيص وفي الشعر فنًّا قائمًا بذاته يتنافس فيه الشعراء.
وكلٌّ له غرض من هذا الفنّ، فربما يأتي به الشاعر في مقام الغزل مثلاً من باب استعراض عضلاته الأدبية ومهاراته اللغوية، وقد يأخذ هذا الفنّ بعدًا آخر إن دخل في مثل الرثاء والمدح والهجاء، غير أن معظم العرب ينظرون إلى الشعر على أنه فنّ المبالغة، ولا يقيمون وزنًا لما يسوقه الشعراء في مبالغاتهم وتشبيهاتهم واستدعاءاتهم التاريخية للقصص والنصوص المقدسة، والشخوص المحترمة في التاريخ، ولا يرتبون عليها أثرًا إلا في ما ندر، وتجد هذا النادر في القصائد التي تحمل بعدًا عقائديًّا كقول أبي نواس:
ما قال ربك ويلٌ للذي شربوابل قال ربك ويلّ للمصلينا
ولم يرتب عليه الناس أنه حلل الخمر أو حَرَّم الصلاة، فالكل يدرك أنه لعب بالألفاظ، وأقسى ما يمكن أن يقال إن الشاعر أساء الخلق، ولم يرعَ حرمة لكلام الله سبحانه وتعالى، وحمله على غير وجهه.
ومن المواضع التي يكثر فيها الاستدعاء للتاريخ والأحداث والمقدس، الخطاب السياسي الذي يتداخل مع الخطاب الديني، وذلك من أخطر المواضع؛ لأن التداخل بين الخطابين يكاد يتعذر فيه تحديد الهامش بينهما، وفي حالة الخطاب السياسي أو الديني يتعدى (الاستدعاء والاستشهاد والتضمين) مقام اللعبة اللغوية أو استعراض مقدرة المتكلم أو الكاتب لقدراته الشخصية وحضور التاريخ والمقدس في معجمه وثقافته، إذ إن (الاستدعاء والاستشهاد والتضمين) يأخذ بعدًا دلاليًا واستدلاليًا، للفكرة التي يريدك أن تؤمن بها وتتقبلها.
فالسياسي والديني بما أنه يروج ويدافع عن فكرة أو منهج أو عقيدة، تكون استدعاءاته واستشهاداته تسويقًا ودفاعًا عن تلك الأفكار والمبادئ، فهو بهذا الفنّ يمايز بين هذا وذاك.
(فالاستشهاد والاستدعاء والتضمين) في الواقع هو تسييج يقوم به الخطيب أو المتكلم، فالتنصيص والتضمين هنا شبيه إلى حدّ بعيد بـ(المقدمة الكبرى) في منطق أرسطو، إذ إنه المثال الذي تجد نفسك صامتًا أمامه لا تحير جوابًا، وأصدق مثال يحضرني هو “المعسكران”؛ معسكر الحسين (ع) ومعسكر يزيد، فلا شكّ أنك لو خيرت بينهما لما عدوت معسكر الحسين (ع)، بل لو فرض عليك معسكر يزيد لفررت منه إلى معسكر الحسين (ع).
لكن التنصيص والتضمين هنا في الواقع لا يساق لكي تقف مع الحسين (ع)، ولكن لفكرة يدعي مسوقها ومروجها أنها تنتسب إلى الحسين (ع)، ويدعي فيها أن الحسين (ع) لو كان حاضرًا لتبناها وقاتل من أجلها، وفرق كبير هنا بين الحسين (ع) المقدس، وبين الفكرة التي يُسوّق إليها بأنها تنتسب إلى الحسين (ع).
وقس على هذا المثال استدعاء السياسيين وتوظيفهم للنصوص القرآنية والمأثورة مثل: ((ولا تَرَكنوا إلى الذين ظلموا)) و(هيهات منا الذلة) و(الموت أولى من ركوب العار) و(إن كان دين محمد (ص) لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني).
فكان بإمكان الخطيب أو الكاتب أن يطرح تلك الأفكار والمبادئ التي تحويها هذه الجُمْل بأسلوب وسبكٍ ثانٍ يوافق مبتغاه من توظيفها، ولكنه يدرك أن فاعليتها ستكون أضعف بكثير، وأنها لن تقع في عقل ووجدان المتلقي بنفس الوقع والتأثير الذي ستكون عليه بـ”تلبيسها” المعصوم (ع) أو نسبتها إليه.
إلا أن هناك من التضمين والاستشهاد التاريخي ما لا تستطيع أن تنسبه للأغراض التي أسلفت ذكرها، لأن المقصد فيها مبهم، أو أن صاحب التضمين جاهل بفنّ الاستشهاد والتضمين، ومثال ذلك ما طالعتنا به كاتبة صحيفة بحرينية في مقال سياسي عن التسامح، وعلاقة التطرف بالسلطة في الشرق الأوسط، فموضوع المقال في حدّ ذاته لا يثير عندي أي شيء.. فهو اجترار لأفكار تذهب وتعود، غير أني توقفت كثيرًا عند استدعائها لموقف تاريخي مغلوط ومُفترى على أبي طالب (ع) عم النبي (ص)، وحاولت أن أجد السبب والدافع لضرب هذا المثال المغلوط، واجتهدت لأجد مبررًا لهذا الافتراء على عمّ النبي (ص) الذي تُجمع الإمامية على إيمانه، ولكنني لم أهتدِ إلى ذلك!
وقلت: لعلّ الكاتبة مشتبهة، فإن تبيّن لها الأمر عادت عن غيها، ولكنني تأكدت أنها لما أنكر عليها البعض وساقوا لها الأدلة، لم تزدد إلا عنادًا وصلفًا، فرغم كلّ المحاولات لإيصال أن فكرة إيمان أبي طالب (ع) أمر لا خلاف فيه بين الإمامية، وأن النصوص الدالة على إيمانه موجودة في كتب الرواة من جميع المذاهب، إلا أنها أصرت “أن الكلام عن إيمانه لم يكن موجود قبل خمس سنوات”!!.
فيا ترى، ما هو المبرر لذلك؟ نعم.. هناك من يضرب أمثلة من هذا القبيل ليسوق نفسه للطرف المقابل ليكون مقبولًا عنده، لكن من يقرأ المقال سيجزم أن هذا ليس هو السبب وراء هذا المثال المقيت، لأن المقال قائم على مهاجمة الطرف المقابل أساسًا، وما المثال الذي ساقته عن أبي طالب (ع) إلا أمر هامشي عرضي في المقال يمكن أن يستعاض عنه بغيره.
ومازلت أحاول أن أدرك المراد من الزجّ بأبي طالب (ع) في المقال ولكن دون جدوى.
فهل هذه سمة و(موضة) من هم محسوبون على الطبقة المفكرة والمثقفة في هذا الزمن، أنهم يملكون من الجرأة ما لا يملك الكثير؟ وهل هذه محاولة لتسويق وترويج أنفسهم عند طرف ثالث لا نعرفه؟ وهل هذه محاولة إحلال للقيم، ومحاولة إيجاد قيم بديلة عن تلك السائدة في المجتمع.. وللوصول إلى ذلك لابدّ من هدم القيم السائدة الآن؟!هل وهل وهل…وما زلت أحاول أن أدرك.. ولعل المستقبل يطالعنا بصرعات جديدة يُقدَّم فيها التاريخ على موائد “المثقفين”.

٥ نوڤمبر ٢٠١٥م
... نسألكم الدعاء ...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *