بسم الله الرحمن الرحيم

الانترنت في المنظور الشرعي والأخلاقي

أولاً: مقدمة في الخواء الروحي والمعنوي عند الإنسان المسلم اليوم:

كثيرةٌ هي متع ولذائذ الحياة وليس لها حد أو حصر عند أولئك الذين يُسمَّون بعُبَّاد الشهوات الذين يفكرون في إراحة البدن على حساب الروح وهم يظنون أنهم لم يُخلقوا إلا ليمارسوا ذلك الدور الذي تشترك معهم البهائم فيه ، بل هي تمارسه بشكل أرقى لحيوانيتها وفقدانها ملكة العقل والتعقل، وربما كانت بعض أدوارها عبادة وتأمل فمن يدري؟!!!!

وفي الحقيقة هم واهمون، ولأن القوة الواهمة وحدها من يدير دفة سفينتهم في هذه الحياة . ولذا تراهم يركضون ويلهثون خلف كل لذة ومتعة إلى أن تضيع أعمارهم ويصدموا بالحقيقة المُرَّة كما يعبر القرآن الكريم ((اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا)).

وإذا كانت مظاهر الترف والرفاهية ظاهرًا قد جعلت منهم نجومًا في دنيا المغريات والوجاهة الاجتماعية والتبختر والتكبر على خلق الله المستضعف فإن تلك المظاهر تخفي وراءها انعدام الأمن والطمأنينة الروحية التي هي رأس مال الإنسان في هذه الحياة.

الطمأنينة الروحية التي تعني أن يعيش الإنسان أجمل أيام عمره فيما رسمه الله تعالى له من خطوط عامة عن طريق أدلائه إلى خلقه (ع) بالموازنة بين حاجات الروح وحاجات البدن.

حاجات الروح وأهمها أن يرتبط الإنسان بمبدأٍ ومعاد يريده خالقه العظيم لا ما يريده هو من معالم يركز فيها على إشباع رغباته ونزواته وبالتالي يكون محط نظره هو إرضاء البدن فقط.

وحاجات البدن أهمها أن لا يتقوقع الإنسان في رهبانيته في رسم معالم طرق وزهد وتصوف زائف يحسب أنها هي المنجية والموصلة إلى الله تعالى فيدوس بذلك الحاجات الأساسية الطبيعية المكنونة في الروح فيقع بين طرفي نقيض إما إفراطٍ أو تفريط.

أما الاستسلام لرغبات وإسعاد البدن وإما جلد الروح بسوط الترهب الأجوف، وهو المرفوض في شريعة سيد المرسلين (ص) والمطلوب هو الحد الوسط ((وجعلناكم أمةً وسطًا)).

ولكن تعال معي اليوم نستقرأ واقع الإنسان المسلم هل أنه يعيش تلك الوسطية ؟ أم أنه غائصٌ من قمة رأسه إلى أخمص قدميه في الخواء الروحي المعنوي ومدى تعلقه بالكماليات وزينة الحياة الدنيا، تمامًا كإنسان الغرب الذي ينعم بالرفاهية والتقدم، الخاوي الروح من المعنويات الموغل في وحل الجريمة والانحراف والبعد عن الله سبحانه وتعالى؟ فماذا ترى أمامك مصاديقٌ متكثرة فاتخذ منها ما شئت.

ولو أنه اتخذ جنبة الروح لوحدها على الأقل ولم يعتمد الوسطية منهجًا لكان حاله أفضل على أحسن التقادير، بينما هو تابعٌ ومقلدٌ لذاك الخواء بمعنى الكلمة ولأجل ذلك انقلبت موازين حياته وكلما أوغل في ذلك الخواء المعنوي ازداد بعدًا عن الله تبارك وتعالى وحاصرته المصائب والويلات من كل جانب، وقد يصل الأمر به أن يتبلد فكره عن حل نزاع بسيط بين طفلين بأيسر الطرق.

والخواء المعنوي الذي نقصده هنا هو: خلو الروح عن المعاني الإنسانية من الحب والرحمة والتواصي بالصبر والحق والشفقة وإعانة الملهوف وغيرها كثير من المعاني الأخلاقية التي دعا إليها أدلاء الخلق إلى الله تبارك وتعالى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من لدن آدم (ع) إلى نبينا الخاتم (ص)، وما ذاك إلا إتباع سنن من قبله حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، ولو أنهم دخلوا جحر ضب لدخله كما حدث بذلك المصطفى (ص).

إن لذاك الخواء المعنوي أسبابًا بالتأكيد ليس هنا محل بحثها ولكن القدر المتيقن يبرز في التطلع لزهرة الحياة الدنيا، وكلما تكثر ذلك التطلع كلما ازداد ذاك الخواء بالتبع والنتيجة تتبع أخس المقدمتين كما في علم المنطق.

إنها قسوة القلوب ودخول الروح في غرفة الإنعاش لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة ولا فائدة حينئذٍ وقد تمرغت زمنًا طويلاً في أحضان اللذائذ والرغبات.

ولأجل ذلك تكون الموعظة والكلمة الطيبة يتيمة لا تؤثر أثرها ولو كانت من نبي الله شعيب خطيب الأنبياء (ع) لأن المانع موجود – وهو الخواء– وإن كان المقتضي غير مرفوع وهو السامع، والنار إنما تؤثر إذا ارتفع المانع –الورقة المبتلة– ووجد المقتضي وهو اقتراب النار من – الورقة اليابسة-.

كذلك هيمنة الخواء المعنوي على روح الإنسان المسلم تشل فيه السير إلى الله تعالى وتأصيل الارتباط بالآخرة، بل هي حاكمة على جميع تصرفاته لأن سعيه لها عن طريق أدواتها أو قل أسبابها والتي من أكبرها الراحة والدعة.

وبذلك يخسر الطمأنينة وراحة البال هنا ويخسر كذلك ما وعد به الرحمن عباده في الدار الآخرة من مفردات ذكرها كتابه العزيز من قبيل الحور العين، والجنات، والسرر، والأرائك، و السلسبيل والكوثر وغيرها التي لا تخلو سورة من سور القرآن منها وإن كان على المستوى التجاري في عبادته.

إن من عاش المرحلتين يدرك مدى الفرق بينهما بالطبع والذي يعيش طامة الخواء الروحي والمعنوي على طول الخط كيف له أن يدرك نعمة طمأنينة حب الله تعالى؟ بينما الذي يعيش ضدها يمكن أن يتأمل ببصر بصيرته ما عليه المترفون من قلق ومشاكل روحية لا يعلمها إلا الله تعالى حتى لكأنها تفيض إلى السطح وتبرز على شكل جريمة انتحار ويأس من روح الله تعالى أو عداوة وتناحر هنا وهناك، وإن كانت المواقع والأضواء والقصور تصور للبسطاء أنه في نعيم فيتمنون مكانه كما تمنى بني إسرائيل مكان قارون ((قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون انه لذو حظ عظيم)).بينما ((وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون)).

وكم رأينا المترفين يتأوهون وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة ويحسدون الفلاح الذي تتقاطر حبات عرق جبينه فتروي الأرض وهو المتوكل على الله وعند الليل يستمع التعزية الحسينية وينثر جواهر عينيه على الشهيد الحسين (ع) فتسمو روحه بالشفافية والولاء ثم بعد ذلك يغط في نوم عميق مرتاح الضمير ولا يفكر في الأرصدة البنكية أو العقار الفلاني أو حجم الأسهم في المؤسسة الكذائية.

يتأسفون ويرددون: يا ليتني كنت مثل ذلك الفلاح إما باع خضاره بأكملها وإما رجع بنصفها عند الظهيرة لخوف فواته صلاة الجماعة.

وفي مسك الختام أعرني سمعك وتوجه ففي الحديث عن مولانا الصادق (ع) كمال بيان معنى الخواء الروحي والمعنوي في مقطوعة تساوي وزنها ذهبًا وسأله المفضل بن عمر عن العشق فقال (ع): قلوبٌ خلت من ذكر الله فأذاقها الله حب غيره، فما معنى خلت؟ وما معنى حب غيره؟ يوجد هناك مقدمة وموضوع ونتيجة أو خاتمة أو محمول وموضوع فتأمل جيدًا وفكِّر.

ثانيًا: الأسرة المسلمة والتخبط بين الإباحة والحرمة:

ولن نقف طويلاً أمام هذا العنوان وسوف نقتصر على تصحيح المفهوم الخاطئ ذهنًا والخلط الفاحش بين العنوانات في الممارسة وربما أعطينا العنوان اسماً آخر تحت هذا التساؤل متى يتحول المباح إلى محرم؟ ثم نجيب بعد ذلك أو نتوسع في الموضوع الرئيسي الانترنت في المنظور الشرعي والأخلاقي.

مما لا شك أن دائرة الإباحة واسعة ولا يوجد سقف معين تقف عندها إذا تحددت دائرة بقية الأحكام التكليفية الأخرى من واجبٍ ومستحبٍ ومحرمٍ ومكروه ويمكن أن نطلق عليها جواز الفعل والترك من دون مؤاخذة.

وإذا صدرت التعابير من أكثر الناس من قبيل هذا ليس بحرام فإنه عادةً ما يقصدون به الإباحة ولا يتوجهون إلا نادرًا أنه ربما كان مكروهًا. وكذلك بالنسبة للواجب هذا ليس بواجب إذ ليس كلما سقط الواجب سقط الاستحباب.

ولكنهم يغفلون عن قضية مهمة ألا وهي إن الاستغراق في المباح ربما أوقعت في المحرم، وخصوصًا إذا زاحم الواجب أو كان مقدمة مفّوتة له كمن يجلس على الحاسوب من بداية الليل إلى أن يتبقى عن وقت فريضة الفجر نصف ساعة فينام عنها ولا يستيقظ إلا ضحىً وقد أشرقت الشمس والأمثلة في هذا الباب كثيرة.

إن للأنس بالمباح والاستغراق فيه دلالات لا تخفى على روحية الإنسان المسلم بصرف وجهة نظره عن الأهم في حياته والتي لو استغلها لعادت عليه بالنفع العميم.

وهناك مباحات يمكن تحويلها إلى مستحبات أو قل خادمة للمستحب أو مقدمة له كالذي يسخر جهاز الحاسوب –الكمبيوتر– في تأليف كتاب ديني ليستفيد منه ويفيد به، أو يشارك في مناظرة إذا كان من أهل الفن والاختصاص ينتصر فيها للمذهب الحق.

وهناك من المباحات من يسخرها الإنسان للمعصية والانحراف كمن يتجول في مواقع الانترنت لينفث سمومه ضد الدين، أو يكون آلة بيد الشيطان الرجيم في إضلاله خلقيًا فيهلك –بفتح اللام–ويُهلك– بضم الياء وكسر اللام– أي يُهلك غيره بإيقاعه في المعصية والانحراف والتنظير لها.

هذا حال واقع الأسرة المسلمة اليوم مع الأسف في الكثير من موارد الإباحة والحرمة والسبب الرئيسي هو: فقدان القدرة على التشخيص والاستخدام معًا. وكل الذي يهمنا فقط هو المشاكلة والغيرة والتنافس على الاقتناء والدلال المفرط على الأبناء وعدم خلق الثقافة الدينية فيما يجوز وما لا يجوز فيما يصح وما لا يصح، ونتيجةً لذلك التخبط يحدث ما لا تحمد عقباه ويقع الفأس في الرأس على كلا المستويين المادي والمعنوي معًا.

هذه المقدمة التأسيسية نستطيع أن نعتبرها مدخلاً للمهم من موضوعنا أو مشكلتنا المستعصية لنأخذ حكم الشارع المقدس فيها من الوجهتين ( الشرعية والأخلاقية).

والدور الذي يقع على عاتق الأسرة المسلمة، وكذلك الدور التكميلي لمشروع التعليم الديني في التواصي بالحق والتواصي بالصبر في طرح الحلول لهذه المشكلة التي تجر الويلات والمصيبات من خلال جهاز يطل على جميع أنحاء العالم بضغطة زر في حجرة مقفلة وفي منتصف الليل بعيدا عن العيون.

فما هو الحكم الأولي لاستخدام الانترنت، وهل يمكن أن يطرأ حكم ثانوي يعيد الحسابات لدى المكلف؟

ثالثا: الحكم الأولي للإنترنت

في حدود الإطلاع القاصر لا أحد من الفقهاء قائل بالمنع أو الحرمة، بل على الإباحة والجواز للبراءة من التكليف في حالة الشك، حاله في ذلك حال اقتناء جهاز التلفزة والهاتف النقال ونحوه وله غرض عقلائي محلل ابتداء.

إلا أن تطرأ عنوانات أخرى للاستخدام كاستعماله في موارد الحرمة من كشف الستور والأسرار الخاصة بين الزوجين مثلا أو استعماله كمادة انحرافية بحتة كمهاجمة الفقهاء الأعلام والتحريض عليهم أو المراسلة الغرامية بين شاب وفتاة لا تربطهم علاقة شرعية ونحوه وهو ما يطلق عليه بحسب الصناعة الفقهية بالعنوانات الثانوية أي يتحول الجواز أو الإباحة إلى الحظر أو الحرمة.

وإذا عاد العنوان الأولي إلى الإباحة والجواز مرة أخرى جاز الاستخدام في مواردهما وهكذا، ولا عجب في ذلك كله لأن المشرع الحكيم ناظر إلى ملاك وروح الحكم الشرعي من المصلحة والمفسدة التي تصب في النهاية في مصلحة المكلف سواء بالسلب أو بالإيجاب.

ففي العنوان الأولي لأن المكلف قاصد للامتثال في الاستخدام المحلل جوز له الشارع الأقدس الاستعمال تحصيلا للمنفعة.

وفي طرو العنوان الثانوي لأن المكلف قاصد للمخالفة في الاستخدام المحرم منع الشارع الأقدس من الاستعمال حسما لمادة الفساد.

وقد لا يوجد في البين حكم أولي وحكم ثانوي، بل الحرمة من رأس، لمن لا يضمن عدم وقوعه بسبب ضعف المقدمات الإيمانية لديه، وهو راجع في الأساس لتشخيص المكلف نفسه، فإن قطع وجزم بعدم الضمانات ابتداء حرم عليه، و إلا جاز له.

والمحصل من ذلك كله أنه سلاح ذو حدين تماما كالسكين يمكن للإنسان أن يقتل بها ويسفك الدماء، ويمكن أن يستعملها في تقطيع الفاكهة.

أو كجهاز (الدش) يستطيع من خلاله مشاهدة البرامج العلمية والثقافية أو مشاهدة الفضائيات الهابطة المتحللة.

هذا البحث معقود (للبالغات العاقلات المكلفات اللاتي يمكنهن التمييز والتشخيص، فهل أنه ينطبق على بناتنا المشارفات على البلوغ أو بلغن و لكنهن مراهقات في ظل انعدام الأجواء الإيمانية وفقدان الضمانات؟!

فمع آلاف الأسف عندما تكون الأسرة المسلمة عاملا في توفير مقدمات المعصية هل يمكن نصور النتائج المفجعة لبنات لا يعرفن إلى الآن تسريح شعورهن من دون مساعدة؟!

هذا ما سوف نبحثه بعد قليل إن أسعفنا الوقت.

رابعا : الأسرة المسلمة عندما تكون عاملا في توفير مقدمات المعصية

في بداية الحديث الأسرة المسلمة يمكننا تقسيمها إلى قسمين:

1- أسرة مسلمة محافظة على تعاليم الدين بمعنى الكلمة وهي التي تتخذ الإسلام منهج حياة في جميع شئونها ولا تشذ عنه مراعية كل صغيرة وكبيرة في تعاملها مع الظروف الزمنية تطورت أم بقيت على حالها وكذلك مع كل وافد جديد من أفكار وآلات لها مدخلية في الهداية والانحراف.

2- أسرة مسلمة غير محافظة على تعاليم الدين بمعنى الكلمة ، فاقدة للهوية الإسلامية إلا في بعض المظاهر والطقوس كالصلاة وصوم شهر رمضان وتقبل بكل وافد جديد من غير عرض لرضا وقبول الإسلام أو رفضه له تستسلف الأفكار وتنبهر بها من أول وهلة. فهي أسرة مسلمة في شهادة الميلاد أو جواز السفر فقط. حتى لكأنك تشك هل أنها أسرة نصرانية أم مسلمة لما تراه عليها من مظاهر التغرب في اللباس والمعيشة.

وكلامنا سوف يكون عن القسم الثاني ونتمنى أن لا يصل بنا الحال كما وصلت إليه، وربما غزت بعض الأفكار الأسر المحافظة في عقر دارها متسللة عبر الإهمال وغياب العين الساهرة الرقيبة من خلال شاشة اشتريت لغرض عقلائي محلل وتحولت بعد ذلك لخنجر يصيب مقتل العائلة المحترمة ويطعنها في شرفها وتسجل حينئذ في قائمة الأسر غير المحافظة بسبب تصرف أهوج من فتاة في ربيع العمر، أو فتى مغامر تعرف على رفيق سوء فزين له حب الاستطلاع، ووقع الفأس في الرأس.

وكيف كان كما قدمنا إن العنوانات الأولية قد تتبدل لعنوانات ثانوية بمقدار تعامل المكلف نفسه مع موضوع الحكم، أعني الآلة كما في محل بحثنا.

وقد يكون تعامله ابتداء شرعي لكنه قد يكون من طرف آخر بالنسبة للغير –ونقصد بهم أفراد الأسرة– مقدمة للمحرم عندما يترك الحبل على الغارب ويكون حينئذ معاونا على الإثم. وفي هذه الصورة تكون الآلة المحللة ذات الغرض العقلائي مصدر غواية وإضلال بطريق غير مباشر في هذه البيوت المحافظة.

فكيف بالبيوتات الغير محافظة التي تعيش أجواء الانحراف والتقليد الأعمى؟

كالأب الذي لا يستنكف أمام أبنائه من الاستخدام السيئ للآلة وتوظيفها في المعصية أو الأم التي لا تخجل في الجنبة الأخلاقية كذلك في الاستعمال، وفي مثل هذه الصورة يكون الجهاز أو الآلة مصدرا للانحراف والتفسخ الخلقي بطريق مباشر. تماما كمن يأتي بكأس الخمر والعياذ بالله تعالى ويضعه على الطاولة ويخبر عنه فيأتي أحد الأبناء ليشربه.

وهو ما يهمنا في المقام وكل الذي مضى من كلام هو تنظير في الواقع لهذا الشق –الأسرة عندما تكون عاملا في توفير مقدمات المعصية– من العنوان الكبير (الانترنت في المنظور الشرعي والأخلاقي).

وهكذا يكون الانترنت بداية النهاية للسقوط في هاوية الانحراف الشرعي والأخلاقي بسبب انعدام ثقافة الاستعمال ويكون مقدمة للمحرم وإعانة على الإثم وفي ظل أجواء أسرية غير محصنة أصلا بالضمانات أو المناعات.

وللتدليل على ذلك نحكي لكم قصة من الواقع المرير تكشف عن مدى ما طرحناه من أفكار. والآن لندع بطلة القصة تروي لنا مأساتها التي صنعتها بيدها والنتائج الوخيمة التي حلت بها نتيجة تهورها وفقدانها للمقدمات الإيمانية، وأن الترميم قد جاء متأخرا جدا ولم يجدِ الندم حلا في رجوع الزوج المطعون في الظهر بخنجر الخيانة الزوجية.

خامسا: قصة من الواقع المرير:

كان يلفني بعطفه وحنانه طيلة فترة زواجنا ولم يكن يبخل علي بشيء أبدا. ولم نرزق بذرية تملأ علينا البيت سعادة بعد.

وكان يخرج لعمله صبيحة كل يوم ولا يعاود أدراجه إلا عند المساء وكنت أحس بالفراغ يقتلني بالرغم من وجود مكتبة متواضعة لو قضيت عمري في قراءة نصفها ما انتهيت.

فاقترحت عليه أن أدخل دورة تعليمية في جهاز الحاسوب لأقتل به حالة الملل فوافق، ونجحت بتفوق وأهدى إلي حاسوبا بمناسبة عيد زواجنا، وفي مساء كل يوم يرجع متعوباً، وزاد من تعبه تسمري خلف الجهاز في الطابق العلوي وإهمالي له.

وقابلني بالمثل فلم يعرني بالا ولا حتى يسألني عن زوج جواربه حينما يضيع فشككت بعلاقته بامرأة أخرى، وازددت بذلك تعنتا وكبرياء.

ازدادت معارفي الكمبيوترية وتعرفت على رجل ترك لي رسالة إعجاب وبادلته ذات الشعور لكلماته المعسولة، وبذلك عشقت الكمبيوتر ولو كان ينطق لكان لديه نفس الأحاسيس والشعور.

ولم أعِ أن لي زوجا قد ظلمته وخنته وخنت الثقة التي أعطاني إياها، وإن الشيطان قد أحكم العلاقة المحرمة مع إنسان لم أر صورته أبداً ولم أعرف حتى عنوانه، ولا أعرف إلا صوته فقط، وربما كان اسمه مستعارا أيضاً.

ولم أنتبه من سكر غفلتي وانحرافي إلا بعد فوات الأوان.

عندما انتفض زوجي وخرج عن صمته وصدمني بالحقيقة المرة لقد تركت ذات مرة الكمبيوتر مفتوحا إثر مكالمة هاتفية عندما كان في عمله وخرجت لزيارة والدي. وقد جاء خفية عند الظهيرة ولم يجدني وصعد إلى الطابق العلوي فرأى نص رسالة الخيانة الزوجية وبالخط العريض:

((عزيزتي سهام . . . لقد اشتقت لك كثيرا ولم أسمع صوتك اليوم))

وعندما عدت قافلة إلى المنزل متلهفة على الغريم رأيت المخدوع ورأسه بين ركبتيه ينشج وتتقاطر دموعه على الأرض.

وبكلمة مؤدبة قال: ارحلي وزاد عليها: احزمي حقائبك قال الله تعالى: ((ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)). وحتى هذا الكمبيوتر لا أريده هنا كي لا أشم فيه رائحة الخيانة عندما أراه. خذيه معك كي تواصلي مشروع غرامك الجديد.

ارتميت على أقدامه كي يسامحني، وبكيت لعل سلاح الدموع يجدي نفعا؟! وخرج من المنزل ولم يكلمني بكلمة.

هاتفت أخي بعد أن حزمت حقائبي ليأخذني إلى بيت والدي، وحرصت على أخذ الكمبيوتر أيضاً كما أوصى.

وفي الليل كالعادة فتحت الجهاز لأتأكد من وجود رسالة جديدة للغريم. وبالفعل كانت موجودة فكتبت له:

((عزيزي عامر . . . أهنئك فقد تحررت من السجن وبإمكانك لقاءي في أي وقت تشاء)).

فكتب إلي: ((لا أستطيع أن آمن من امرأة خانت زوجها أن تخونني مع رجل آخر)).

مع السلامة . . . اشتري لك ماكينة خياطة كي تتسلي بها

وحيد.

والفاجعة أنني ضيعت زوجي بنزوة عابرة. ولم أفز بفارس الأحلام لان له معارك قادمة مع نساء أخريات أو قلن فرائس أخريات وفقدت سمعتي، ولم يتقدم لخطبتي رجل ما أعيش معه بقية عمري المنكوس.

فأنا نادمة ونصيحتي للأخوات أن لا يصادقن الشيطان الرجيم ولا يحدثن أنفسهن بمحادثة الذئاب البشرية فإن جرحي لا يزال ينزف إلى الآن.

ولا تعليق لان النهاية التي نروم الوصول إليها قد تكفلت بطلة القصة باستنتاجها. ولكن بعد فوات الأوان.

وأتمنى منكن أن لا تفكرن بالمصير ولا تركزن على الجمال الأدبي في السرد القصصي فهو ليس المطلوب بقدر ما يهمنا من الخاتمة التعيسة لامرأة أصبحت أسيرة لجهاز صامت قد أتى على خراب بيتها. ولم تستعمله بحسب الأصول الشرعية.

والقصة يمكن أن تتكرر وتتكرر بأبطال آخرين ولكن المهم هو العبرة والاعتبار وملاحظة معية الله تبارك وتعالى قبل البدء في الضغط على زر التشغيل.

سادسًا : الضمانات المقترحة من الوقوع في الفخ :

1- الرقابة الأسرية ولو أدَّى ذلك إلى تجاوز الخطوط الحمراء في الخصوصيات لأجل المصلحة .

2- تقوية المقدمات الإيمانية بالعودة إلى رحاب الإيمان .

3- خلق ثقافة الاستخدام شرعيًا وأخلاقيًا ( الحكم الأولي والثانوي ، المساوئ والمحامد )

4- تكوين مكتبة منزلية متواضعة تناسب الفئات العمرية ، وتخصيص ولو ساعة واحدة للقراءة والإطلاع .

5- تنمية المواهب والهوايات الجائزة شرعًا.

6- تخصيص وقت للعائلة للاجتماع وتدارس الأوضاع لتدارك الأخطاء اليومية .

7- تكوين مكتبة كمبيوترية هادفة .

8- الملاحظة والتدقيق في اختيار أصدقاء العائلة.

9- عدم تخصيص جهاز كمبيوتر خاص لكل فرد.

10- الحث على الالتحاق بالتعليم الديني في المنطقة ، وضرورة التواصل البنَّاء بين العائلة وإدارة التعليم الديني.

سابعًا : التعليم الديني ودوره التكميلي في الحصانة ضد الانحراف

هذا التعليم الذي أرسى لبنته الأولى سماحة الحجة آية الله الشيخ سليمان المدني ( قدس الله نفسه الزكية) حقق الكثير من الإنجازات التي لا تنكر ولا يزال يقدم عطاءه طوال العام للذين يريدون الارتشاف من معين علوم أهل بيت العصمة والطهارة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وظهر هذا المشروع للنور ليلبي احتياجات الفرد المسلم فيما يعترضه من مسائل الحلال والحرام وتصحيح المفاهيم الخاطئة السائدة في المجتمع، وتقوية الجوانب الدينية في شخصيته، والارتقاء به معنويًا وأخلاقيًا وتحصينه من الثقافات الوافدة.

وهي نعمة يحسدنا عليها الكثير من باقي مناطق البحرين التي تنخر فيها الحزبية والتمزق والفرقة.

وإنه في الوقت الذي لا ندَّعي فيه الكمال المطلق فقد أخذت الإدارة على نفسها وتعاهدت على تقديم المزيد من البرامج الصيفية التي تصب في خدمة أبناء المنطقة من إقامة الندوات والاحتفالات والفعاليات الثقافية هذا بالإضافة إلى تدريس المواد التالية: الفقه –العقائد– الأخلاق –السيرة– تعليم الصلاة للأطفال.

وكل ذلك يحتاج إلى ركنين مهمين في مواصلة المسيرة نحو الأفضل ألا وهما الدعم المادي والمعنوي من الأهالي الكرام.

وهذه الجهود المحترمة من كوادر حوزوية من الأخوات الفاضلات قد تبرعن لوجه الله تبارك وتعالى لإحساسهن بالمسئولية الدينية تجاه بنات جنسهن، وتقوية الوازع الديني وتحصينهن ضد الانحراف بأشكاله المتعددة.

وخلق الأجواء الإيمانية في العلاقات الأسرية، وتقديم الحلول من هدي كتاب الله تعالى وسنة نبيه الكريم (ص) للمشاكل بين الأزواج.

وهناك بالفعل فكرة يتم الإعداد لها إن شاء الله تحت عنوان (الحياة الزوجية مشاكل وحلول) وهي عبارة عن دورة مكثفة تخص المتزوجين وتقديم العون والاستشارة الدينية لهم.

المكان معلومٌ للجميع ولا ينقص سوى العزم على الرغبة في الحضور والاستمرار في المواصلة.

تصوروا معي أن بعض الأسر تحرص على إدخال أبناءها دورة تعليمية في أحد المعاهد من أجل تقويتهم في مادة الإنجليزي مثلاً وتدفع المبالغ الطائلة ولا ضير في ذلك، بل أنها تتواصل مع إدارة المعهد للاطمئنان على المستوى دائمًا وإنها تشتري كتب المادة بأغلى الأثمان، وتوفير المواصلات، وفي اليوم الذي يتقاعس فيه عن الذهاب تحاسبه حسابًا شديدًا وربما حرمته من المصروف اليومي.

لكنها في الوقت نفسه لا تحثه على الذهاب لمركز التعليم الديني، وإذا كان مسجلاً من حيث لا تدري أصلاً وعلمت به وتقاعس أيامًا فإنها تتراخى وتغضُّ الطرف عنه، بالرغم من مجانية التعليم. فلماذا يا ترى؟!!!!!

هل لأن مردود تعلم تلك المادة في المعهد سوف يعود مستقبلاً عليها بالربح والفائدة ؟! بينما مردود تعلم الأحكام والأخلاق والسيرة والعقائد لا يعود بشيء ؟! لماذا لا يتم الجمع بين الاثنين؟؟ وهل في ذلك من مشكلة؟

إننا من خلال هذا اللقاء نكرر الدعوة صريحة:

((إنَّ التعليم الديني أُسِّسَ من أجلكم، لكم ولأجيالكم، وبدون تضافر الجهود مِنَّا ومنكم، فإن عطاءه يضمحل، وربما مات المشروع برمَّتِهِ، وهي خسارة لا تُعوَّضُ بِثَمَن)).

بعض الناس لا يشعر الآن بمدى فائدة هذا المشروع، ولكن لو فكَّر قليلاً فسوف يدرك مستقبلاً وحينما يحوز على بعض أو معظم الأحكام فلأنها سوف تستمر معه إلى قبره وسوف يُسْأَلُ عنها يوم القيامة.

ولا حجة له أمام الله تعالى لأنه سوف يُجاب بواسطة سؤال كبير:

“لماذا لم تتعلم أمور دينك وقد وُجِدَ المتفرغ لتعليمك يسهر ويتعب من أجل وصولها إليك بيسر وسهولة؟؟” “لماذا تحرص على تعلَّم العلم الدنيوي وتهمل العلم الذي فيه سعادة الدارين الدنيا والآخرة؟”

وإذا لم يكن لديك الوقت الكافي في تحصين بناتك فلا أقل من حثهن على الالتحاق بهذا المشروع الشريف، وإلا واجهتك مشاكل وصعوبات أنت في غنىً عنها في الدنيا لتقصيرك، وغدًا في الآخرة لموآخذتك على ذلك التقصير.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الأطيبين الطاهرين.

سيد جميل المصلِّي ” عفا الله عن جرائمه “

29 جمادى الأولى 1424هـ / 29/7/2003م

بإيعازٍ من السيدة الفاضلة أم محّمد

... نسألكم الدعاء ...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *