بقلم – حسين علي خلف:

“نادى وقد ملأ البوادي صيحةً”.. “وين الچفين يا سردال الحرب؟”.. “لكن أنا باشيلك”. “قفي يا نفس وقفة واردٍ حياض الردى”.. والكثير من أشباه هذه الأبيات والمقاطع ترد للمستمع وهو في مأتم الحسين الشهيد عليه السلام.

والعارف بالعربية وآدابها يعلم أن الشاعر في شعره يحكي الوقع لا الواقع، إنه باختصار يحكي أثر القضية في نفسه وفي نفس من يشاركه تلك العاطفة، ولا يخطر في بال الشاعر أو الناعي والراثي أن يعيد ترتيب القضية أو أن يصححها ويدقق في معلوماتها وتفاصيلها ليخرج بقصة تكون هي الأقرب للواقع. وهذا الأمر سائغٌ وشائعٌ في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي إلى يومنا هذا، فكثيرٌ من: “قالت” و”قلت” في الشعر -منذ كان- إنما تتحدث عن الوقْع في النفس وليس الواقع على الحقيقة بالفعل، والمتلقي العربي يدرك ذلك –وفق سليقته- تمام الإدراك.

ومن تلك الأمثلة التي لا حصر لها قول عبدالحسين الأعسم، وهو العالم والأديب المعروف: “وزينب تدعو وفي قلبها”، وينتقل بعد ذلك في أبيات عديدة بالشكوى على لسانها إلى أبيها أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، وسرد كثير من الحوادث والوصف المرير، والمتلقي يدرك أن هذا ما يتخيَّله الشاعر من أثر الحوادث في قلبها عليها السلام، وأن هذا ليس نصًّا في حادثة.

ولكن، ورغم وضوح ذلك وبداهته، فقد طالعتنا في السنوات الأخيرة مع الأسف الشديد محاولاتٌ ممن تكلَّفوا تنقيح التاريخ وتصحيح الحوادث، جاعلين ميدانهم الأول في ذلك هو ميدان النعي وقصائد الرثاء، وهم بهذا يعلنون جهلهم بالذهن العربي وأدبه، وإن كانوا فضلاء في علوم ومجالات أخرى.

نعم، نحن لا ننكر أننا ونحن نتعاطى مع قضية دينية وأشخاص مقدسين نريد من تلك القصائد وذلك الناعي أن يحافظ على قداسة الشخصيات وحرمة القضية، إلا أن المستمع للناعي أو القارئ للشعر الرثائي لا يطلب دقة المعلومة، ولا يبحث عنها في هذا المورد، بل ولا يؤسس عليها شيئًا، بل إنه يطلب من يستطيع أن يوقع في نفسه أثرًا وتعاطفًا دون المساس بقدسية القضية وصاحبها بالتأكيد. فالشعر مخزونٌ عاطفيٌّ يبثه الشاعر في شعره ليحكي به مخياله وما يعيشه هو وما يتصوره في ذهنه ليُوقع ذلك الأثر في نفوس مستمعي نظْمه ليشاركوه الشعور والأثر.

ولا أظن أحدًا ممن يعرف لغة العرب وذوقهم يتوهم أنَّ العرب في شعرهم العاطفي والانفعالي كله، وخصوصًا الرثائي منه، يدققون أو يريدون السرد التاريخي العلمي، والجميع يعرف أن قراءة التاريخ وتفحصه وتحقيقه ليس مورده الشعر، وإن كان الشعر يعطي إشاراتٍ مهمةً في ذلك، وإنما يكون في مكتبة التاريخ وكتب السيرة؛ ولكل مجالٍ وموردٍ أدواته.

فلا يصح بحالٍ أن تأتي بأدوات التحقيق الفقهي مثلًا لتستعملها في مجال التحقيق التاريخي، أو بأدوات النحو والصرف لتستعملها في مجال الشعر غير الفصيح، فكذلك لا يصح أن تحاكم المشاعر التي يبثها الشعراء تحت يافطة تنقيح السيرة وتنقيتها.

نحن لا نحجر على أحد أن يعرض ما وصل إليه بالتحقيق والتدقيق، ولكن يجب أن يحافظ في ذلك على الأصول العلمية والأدبية المرعية في ذلك، فحتى لو كان يرى أن واجبه تغيير (الحكاية الشعبية) للحادثة والقضية فلا يكون ذلك بهذه الطريقة التي يجعل فيها تصوراته ميزانًا أو حكمًا على ما أنتجته عواطف أجيال وأجيال في صور شعرية تخيلية، بل له أن يحكي القصة بطريقته ويجتهد في بثها وتأكيدها دون محاكمة وتجريم المخيال الشعري الموجود، فلعلها تأخذ طريقها إلى مخيلة شعراء العصر فيبثونها في شعرهم ونتاجهم، فتتحول بعد حين إلى حالة عاطفية تحدث أثرها في الناتج الأدبي وفي طريقة التصوير التي يتبعها الناعي ليوجد أثرًا في قلب المستمع والقارئ.

إن البعض من حيث يعلم أو لا يعلم بإسرافه في اتباع هذا المنهج يدق إسفينًا بين الراثي شاعرًا أو ناعيًا وبين المعزي، ويبرِّد المشاعر الطبيعية لدى المستمع، ويسلب منه ذائقته الشعرية الفطرية وتفاعله بها ومعها، فيتسم بالجمود أمام سيل من العواطف الشعرية، ويصير رقيبًا متربصًا بالراثي: هل هذه الصورة حصلت أم لم تحصل؟ وهل هذا القول وارد في كتب المقاتل أم لا؟ وفي أي مقتل؟ وهل هذا المقتل من المقاتل المعتبرة؟ والنتيجة أننا كون قد أفرغنا الشعر من نفسه، وكسرنا ما قامت عليه هذه المآتم في المقام الأول.

وربما يكون أبلغ الشواهد في هذا المقام قضية زفاف القاسم بن الحسن، فالكل يعلم تمام العلم أنه لم تكن هناك شموعٌ ولا حنّاءٌ ولا أهازيج، وحتى قضية إجراء العقد أساسًا يدرك كثير من الناس أن فيها كلامًا واختلافًا، ولكن لا أحد يتوهم أصلًا حين سماعه للشعر أنه كان هناك فعلًا زفافٌ وثياب زينة وشموع وحناء، وإنه لا يعدو كونه تحسرًا يقع في القلب ويأخذ منه مأخذه، وهذا هو عين ما نتحدث عنه؛ فالكلام هنا عن الوقع في النفوس من تحسر على الشباب، فحين نردد مثلًا: (يمه ذكريني) فجميعنا يعلم أنه قول شاعر استطاع أن يوصل لنا الوقع، وأما الواقع فتبحث عنه أنت في الكتب، وليس هذا مكانه، فإنما هذا أدبٌ محضٌ، وليس أرجوزة علمية كألفية ابن مالك و(كلامنا لفظ مفيدٌ كاستقم)، أو منظومة الترتيل (أيقظ وانظر عظم ظهر اللّفظ)، والتي أريد منها نظم العلوم أولًا وأخيرًا.

وختامًا أستذكر قولًا يحكي جانبًا من واقعنا المرير في بعض من يتصدر المشهد الثقافي: “يحكمون في الشعر بالعلم، ويحكمون في العلم بالشعر”، وهذه المقولة تختصر الكثير من الحبر والأوراق، فلا يخفى على المتتبع أن البعض وهو في القضايا المصيرية والحساسة وبالغة الخطورة يحشو ويملأ خطابه بالعاطفة والإنشاء اللذين لا ينطويان على شيء، في الوقت الذي يصلت فيه السيف على قصائد الشعر وأبيات الرثاء تحت يافطة الدقة والتدقيق والتحقيق وكأنها كتبت كي تسجل أحداث التاريخ وفق القواعد العلمية والدقة التاريخية. والله وراء القصد.


تاريخ النشر: 10-08-2022 – 12 محرم 1444 هـ

... نسألكم الدعاء ...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *