باسمه تعالى  
يتداول في الساحة السياسيّة والفكريّة في بلدنا البحرين وفي غيرها من الساحات السياسيّة والفكريّة في العالم الإسلامي قضيّة موقف الإسلاميين من التيّارات غير الإسلاميّة , فهل يتبنّى الإسلاميّون موقفاً إيجابيّاً يتمثّل في  التفاهم والتنسيق مع هذه التيارات المخالفة للإسلام ؟ , أم يتّخذوا موقفاً سلبيّاً يتمثّل في المقاطعة والتحذّر منهم وعدم السماح لهم بالتغلغل في المجتمع المسلم ؟ , أم هناك موقف آخر ؟ . وبعبارة مختصرة : ما هي معالم الموقف الإسلامي من التيارات المخالفة والمعادية للإسلام وحركته في الحياة ؟ .


يميل البعض للقول بضرورة التفاهم والتنسيق مع الشخصيّات والتيارات السياسيّة غير الإسلاميّة في الساحة , واعتبار ذلك إفرازاً ونتيجة طبيعيّه للإعتراف والقبول بالآخر , وهذا الإعتراف والقبول بدوره إفراز ونتيجة طبيعيّة للحق المكفول دينيّاً ودوليّاًً لكلّ شخص أو تيار من أن يكون له هويّته الدينيّة والفكريّة والسياسيّة .


يقول بعض من يميل لهذا الرأي : ( .. تكوين هويّة دينيّة ومذهبيّة وسياسيّة حقّ كفله القرآن والمواثيق الدوليّة . ومن منطلق إسلامي أعترف لكلّ شخص بأن تكون له هويّته الدينيّة والفكريّة والسياسيّة .. فكلّ تيار من حقّه أن تكون له هويّته المستقلّة ، مؤسساته الخاصّة ، ومن حقّه أن تكون له مشاريعه وبرامجه الخاصّة .. بعد ذلك يكون هناك التعاون بين كافّة التيارات وكافّة القوى من أجل المصلحة الوطنيّة العامّة .. فكلّ تيار له هويّته المستقّلة وله مؤسساته ومشاريعه ، ويجب أن يكون هناك تعاون بما يخدم المصلحة الوطنيّة العامّة ، وهذا التعاون يجب أن يستمر وليس في مرحلة من المراحل ) . ويضيف هذا القائل : ( إنّ التنسيق مسألة استراتيجيّة , ألآن وفي كلّ المراحل ) .


نعم يشترط أصحاب هذا الرأي , أن لا يكون التنسيق على حساب الهويّة الدينيّة , يقول الأستاذ المتقدّم النقل عنه : ( .. فالتنسيق مادام ليس على حساب الهويّة , فهو ممكن ويأخذ أعلى الدرجات ) . كما قد يشترطون بعض الشرائط التي لا ضمان للإلتزام بها في جوّ الثقافة الحرّة وتعدّد القراءات , يقول الأستاذ المذكور : ( وعلى غير الإسلاميين كشرائط لعمليّة التنسيق الإعلان وتعريف الأمّة بالأمور التالية ؛ الأوّل : إحترام خيار الشعب . الثاني : احترامهم للدين الذي ارتضاه الشعب ، وهو دين الإسلام ، واحترام الشعائر . الثالث : أن يمتنعوا كليّاً عن الإسائة للدين والمشاعر بقول أو فعل ) .


ويضيف محترزاً : ( وليس معنى ذلك أن لا يعبّروا عن آرائهم ، فلهم الحقّ كلّ الحق التعبير عن آرائهم بإسلوب علمي وموضوعي ، وأن يكون الحوار بيننا وبينهم على هذا الأساس ، فالمرفوض هو السبّ والشتم والإستهزاء والسخرية ، أمّا أن يعبّر عن رأيه بإسلوب علمي ؛ إنّ اللّه غير موجود ، وعلينا أن نناقشه على هذا الأساس ، ومن حقّه أن يعبّر بإسلوب علمي بالقول ؛ بأن النبي محمّد ليس بنبي ، وأن النبي عيسى هو النبي ، فنحن لا نرفض النقاش العلمي في طرح دقيق في أيّ أطروحات عقائدنا . إنّما نرفض الأساليب غير الأخلاقيّة التي يرفضها العقلاء ) .


هذا , وقد يفصّل البعض بين قضيّة التمكين وقضيّة التنسيق , فيمنع الأوّل إنطلاقاً من حرمة تمكين غير الإسلاميين في قلوب المؤمنين أو في واقعهم الخارجي . ويجوّز الثاني باعتباره حالة يقتضيها الوضع السياسي , بشرط أن لا يستلزم التمكين المحرّم .


ويذهب ثالث إلى حرمة جميع أنحاء التعاون والتفاهم والتنسيق مع غير الإسلاميين وخصوصاً الشيوعيين الملحدين منهم , باعتبار أنّ ذلك نحو تمكين فعلاً لغير الإسلاميين في قلوب وصفوف المؤمنين , وأنّ الوضع السياسي لايبرّر مثل ذلك . نعم قد يلتمس هذا البعض مبرّراً لبعض أنحاء التنسيق التي تفرضها بعض الضرورات السياسيّة ميدانيّاً , وهذا يترك تشخيصه لوقته , ولا تصلح هذه الحالات الخاصّة مبرّراً لرفع شعار التنسيق والتفاهم والتعاون مع غير الإسلاميين على لسان القيادات الإسلاميّة , وفي محافلهم ومقالاتهم .


هذه مجموعة من الأفكار حول قضيّة التنسيق بين الإسلاميين وغير الإسلاميين ، ولديّ هنا مجموعة من الملاحظات لعلّها تنفع في تجلية الموقف الصحيح , وتحدّد معالمه الأساسيّة .  


الملاحظة الأولى 
 هل أنّ الإسلام يعترف لكلّ إنسان بهويّته الدينيّة والمذهبيّة والسياسيّة ؟ ، هذا الأساس الذي ذكرضمن الرأي الأوّل كتبرير ديني للتعاون والتنسيق مع غير الإسلاميين مهما كانت هويّتهم الدينيّة والمذهبيّة والسياسية . 
موقف القرآن واضح من ذلك ، فها هو ينادي بكلّ قوّة : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } آل عمران/85 ، وهي واضحة الدلالة ، خصوصاً مع ملاحظة الآيات الأربع التي قبلها . 
وقال تعالى مستنكراً : { أفحكم الجاهليّة يبغون ومن أحسن من اللّه حكماً لقوم يوقنون } المائدة/50 ، وقال سبحانه : { ومن أحسن ديناً ممّن أسلم وجهه للّه وهو محسن } النساء/125 ، وقال عزّ اسمه : { صبغة اللّه ومن أحسن من اللّه صبغة ونحن له عابدون } البقرة/138 ، وهي واضحة الدلالة خصوصاً مع ملاحظة الآيات الثّمان التي قبلها ، وقال عزّ وجل : { .. فماذا بعد الحق إلاّ الضلال فأنّى تصرفون } يونس/32 ، نضم إلى ذلك قوله تعالى  : { .. ويريد اللّه أن يحقّ الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولوكره المجرمون } الأنفال/7،8 . وقال تعالى : { ومن لم يحكم بما انزل اللّه فؤلئك هم الكافرون } وفي آية أخرى : فؤلئك هم الفاسقون ، وفي ثالثة ؛ فؤلئك هم الظالمون ، هذا بالإضافة للآيات الكثيرة التي تسفّه الكافرين وغير المؤمنين وتنفي عنهم العقل ، وتعتبرهم ظلمة ومجرمين ، وتعتبرهم كالبهائم بل أشدّ من ذلك ، قال تعالى : { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليهم وكيلا * أم تحسب أنّ أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا } الفرقان/43،44 ، وقال سبحانه : { فمن أظلم ممّن افترى على كذباً أو كذّب بآياته إنّه لا يفلح المجرمون } يونس/17 ، وقال تعالى : { إنّ شرّ الدواب عند اللّه الذين كفروا فهم لا يؤمنون }الأنفال/55 ، إلى غيرها من الآيات الكثيرة التي يزخر بها القرآن العزيز التي تدل جميعها على رفض ما عدا الحق ، رفض ما عدا الإسلام الحنيف .
فالعجب ممّن يقول أن القرآن يكفل لكلّ إنسان ولكلّ جهة  تكوين هويّته الدينيّة والمذهبيّة والسياسيّة الخاصة به ، ويعترف له بذلك . والأعجب من ذلك الإستدلال
له بقوله تعالى : { إنّما عليك البلاغ } ، بدعوى أنّ القرآن يقرّر في هذه الآية أنّ الرسول واجبه التبليغ فقط ، وينفى عنه السيطرة على الناس فيقول : { لست عليهم بمسيطر } وفي آية أخرى يقول : { لست عليهم بحفيظ } ، فالرسول إذن مجرّد مبلّغ وللناس حريّة الإختيار .
ووجه العجب أنّ الآية ليست في مقام بيان الوظيفة التكليفيّة ، وإنّما هي في مقام بيان واقع تكويني ، وهو أنّ الرسول (ص ) ليس له سلطة قهريّة على قلوب الناس وعقولهم ، وهذا واقع لا ريب فيه ، ولكنّه أجنبيّ عن المقام ، فالآية بمثابة التطييب لخاطر الرسول الكريم ، لا التصديق على جميع اختيارات الناس الدينيّة والسياسيّة ، كما هو واضح .
والحاصل ؛ أنّه لا يصح تبرير التعاون والتنسيق مع غير الإسلاميين على أساس ديني ، واعتبار ذلك استراتيجيّة دينيّة ، لها مبرراتها الدينيّة بالعنوان الأولي . نعم قد نلتمس لبعض حالات التنسيق والتعاون السياسي العملي المأمون ، بعض المبررات العمليّة التي تتحرّك في دائرة العناويين الثانويّة من المصلحة المحرزة التي تقابلها المفسدة الواضحة . ويرجع تشخيص ذلك لأهل الخبرة في الدين والسياسة . فالقضيّة إذن تدخل ضمن دائرة الضرورات السياسيّة ، لا الإستراتيجّية المعلنة .


الملاحظة الثانية 


 إنّ ممارسة حريّة التعبير لا يمكن أن تتسع لتنال ضروريّات الدين وأصوله العقائديّة ، مهما حاولنا إضفاء العلميّة والموضوعيّة على هذه الممارسة . لأنّنا نفرّق بين ما هو من ضروريّات الدين ومسلّماته ، وبين ما هو من المسائل التفصيليّة الخلافيّة ، فالنحو الثاني يمكن طرحه على طاولة البحث العلمي من قبل أهل الإختصاص ، أمّا النحو الأوّل فلا يمكن طرحه على طاولة البحث على مستوى النفي والإثبات ، مهما وصف ذلك البحث بالبحث العلمي ، لأنّه يوجد أمام ذلك مانعان ، الأوّل نظري ؛ وهو إنّه لا يمكن أن يكون هذا البحث علميّاً بوجه من الوجوه ، بل هو إمّا شبهة يحتاج صاحبها أن يزيلها ، فعليه أن يراجع أهل الخبرة في ذلك ، إنطلاقاً من أصل رجوع الجاهل إلى العالم ، ولزوم تعليم الجاهل ، الذي يتوقّف بالطبع على سؤال الجاهل ، وإبرازه لما يختلج في نفسه من الشبهات والأوهام ، وهذا أجنبيّ عن دائرة حقّ التعبير عن الرأي ، وحق إنكار الضروريّات الدينيّة بإسلوب علمي على الملأ العام . والمانع الثاني عملي ؛ وهو إنّ هذا الشخص الذي يعطيه الأستاذ حقّ التعبير عن رأيه بإسلوب علمي حتّى في وجود اللّه تعالى ، ونبوّة محمّد ( ص ) ، إن كان من ملّة الإسلام ، فهو مرتدّ عن فطرة كما يعبّر الفقهاء وحكمه القتل ، فهو مهدور الدم في الإسلام ، فكيف يكون له الحق في التعبير عن رأيه ، وعلينا أن نناقشه بإسلوب علمي ، وهل هذا إلاّ مخالفة لما هو مقرّر  لدى جميع الفقهاء . وإن كان من غير ملّة الإسلام ، فلا كلام لنا معه ، ولا أظن أن الحديث الدائر يشمله .
أضف إلى ذلك ، إنّ الإسلام وغيره كذلك يرفض الإهانة والظلم ولوكانا بإسلوب علمي ، وكونهما بهذا الأسلوب أو ذاك لا يخرجهما عن كونهما إهانة وظلم ، وأيّ إهانة ، وأيّ ظلم ،  أكبر من إنكار وجود اللّه تعالى ، ونبوّة نبيّنا محمّد (ص) ، على الملأ وفي بلد مسلم . ولا يشفع لذلك كونه بإسلوب علمي ، إن صحّ التعبير . 
ثمّ ما هو المقياس لتحديد الأسلوب العلمي من غيره ؟ .. أوَليس إنكار البديهيّات والضروريات في الدين بنفسه كاشف عن عدم علميّة الإنكار ؟ ، أو أنّ المقصود من علميّة الأسلوب مجرّد التأدّب في مقام الإنكار ، وإن كان المحتوى سخيفاً جدّاً ؟ . 
ثمّ إلى متى يبقى على المسلمين أن يناقشوا المنكرين لضروريّات الدين بإسلوب علمي ؟ ، هل لهذا السجال الفكري نهاية حاسمة على مستوى الواقع ، أم نبقى نتحرّك في دائرة مفرغة مع هؤلاء المنكرين الجاحدين ، وتضيع الحقيقة في مزايدات الجدال العقيم ؟ ، أوَلم يقم الإسلام الحجّة الواضحة والبالغة على أحقّانيّته عن طريق تحدّيهم بالقرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً ، فلم يذعنوا له ؟ ، وبقي الأئمّة الأطهار عليهم السلام يكافحون في هذا الطريق ، وبيّنوا المطالب الحقّة بأجلى صورة ، وأتمّوا بذلك الحجّة . ثمّ جاء العلماء الأبرار فنشروا علوم أهل البيت عليهم السلام وبيّنوها للناس ، واستدلّوا عليها بالأدلّة المختلفة ، فلم يبق لأحد عذر بعد ذلك ، فإلى متى يبقى باب النقاش مفتوحاً
خصوصاً في عقائدنا الحقّة – ، ومتى سيذعن هؤلاء الجاحدون ؟ ، { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوّا .. } النمل/14 . 
في ضوء ذلك تبدوا مبررات الحكم الشرعي بهدر دم المرتد عن فطرة ، واضحة جليّة ، وإن كنا لا نحتاج لكلّ ذلك بعد ثبوت الحكم فقهيّاً عند جميع الفقهاء ، وإنّما هي مجاراة لأساليب البحث العلمي .. .  


وفي آخر هذه الملاحظه ، أرى من المناسب التنبيه على نقطة مهمّة ترتبط بقول الإستاذ : ( فنحن لا نرفض النقاش العلمي في طرح دقيق في أيّ أطروحات عقائدنا ، إنّما نرفض الأساليب غير الأخلاقيّة التي يرفضها العقلاء ) . 
فهل أصبح المقياس الوحيد في الرفض والقبول ، هو رفض العقلاء وعدمه ؟ . فأين إذن رفض الشارع وتحريمه ؟ فأين إذن بديهيّات الدين وخطوطه الحمراء التي قد لا يعترف بها جمع غفير من العقلاء ؟ .     


الملاحظة الثالثة 
يحاول البعض أن يربط قضيّة التنسيق مع غير الإسلاميين بالمسألة الأخلاقيّة في الإسلام ، واستدل لذلك بأن الإسلام لا يجوّز الظلم والتعدّي حتى على غير الإسلاميين .. . كما استدلّ له بقوله تعالى : { لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ اللّه يحبّ المقسطين إنّما ينهاكم اللّه عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فألئك هم الظالمون } الممتحنة/8،9 . قال : ( .. لا يفهم من ذلك أي الآيتين إنّ الإنسان غير المسلم إذا لم يقف الموقف العدائي للإسلام والمسلمين ألاّ نقسط إليه ، إنّما ينهانا عن الذين يحاربون اللّه والرسول ، وكما قال اللّه في أية أخرى : { لا يجرمنّكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ..} المائدة/8 ، وأضاف : ( فهذا الجانب اتخذته كمقدّمة لموضوع التنسيق مع العلمانيين الوطنيين في البحرين ) . 
والذي نلاحظه على هذا الكلام ؛ أنّه لا شكّ أنّ الإسلام يربّي أتباعه على أرفع الخلق في التعامل مع الآخرين ، فهو لا يرضي لأتباعه بالظلم أو الخيانة أو غيرها من الرذائل ، ويأمرهم بعكسها من العدل والإحسان والوفاء مع جميع الناس المسالمين الذين يحبّون الخير وإن كانوا غير مؤمنين ، قال تعالى : { إنّ اللّه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكّرون } النحل/90 ، وقال تعالى : { .. ولا تعتدوا أنّ اللّه لا يحبّ المعتدين }البقرة/190 ، وقال سبحانه : { .. ولا يجرمنّكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا اللّه .. } المائدة/8 ، وقال سبحانه : { لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ اللّه يحبّ المقسطين  } الممتحنة/8.
ولكن هذا أجنبيّ عن قضيّة التنسيق والتعاون مع غير الإسلاميين التي هي مسألة شرعيّة ، ترتبط بالفقه السياسي في الإسلام . ونحن عندما نرفض التعاون والتنسيق ، لا نتبنّى الظلم والإعتداء والبغي على الناس المسالمين . بل لا نعارض حتّى الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن ، فإنّها باب من أبواب الدعوة إلى اللّه تعالى وسبيل الخير والصلاح . 


الملاحظة الرابعة 
 يحاول البعض أن يجعل قضية التنسيق مع غير الإسلاميين في هذا البلد أو ذاك مرتبطة بحقّ المواطنة المكفول لجميع المواطنين ، بدعوى أن التعاون والتنسيق معهم يدخل في دائرة الإعتراف لهم بالمواطنة , وعدم التعاون والتنسيق معهم يدخل في دائرة الحرمان لهم من حق المواطنه . 
والذي نلاحظه على هذا الكلام ؛ أنّ قضيّة التعاون والتنسيق لا ترتبط بحق المواطنة ، فإنّ هذا الحق ليس بأيدينا ، ولسنا بصدد الحديث عنه ، ونفي التنسيق والتعاون لا يعني بوجه نفي المواطنة ، ومن الغريب ربط أحدهما بالآخر . فإنّ التعاون والتنسيق موقف شرعي , والمواطنه موقف رسمي .  


 الملاحظة الخامسة  
إنّ التعاون والتنسيق مع غير الإسلاميين ليس حدّه وشرطه الوحيد الحفاظ على الهويّة ، بمعنى أنّه إذا لم يضر التنسيق بالهويّة فلا مانع منه ، بل هناك حدود وشروط أخرى ؛ 
أحدها : عدم تمكينهم من واقع المؤمنين أو قلوبهم ، بمعنى ؛ أن لا يلزم من التنسيق والتعاون تمكين غير الإسلاميين من مواقع الإسلاميين ، والسماح لهم بتحقيق أهدافهم وأطروحاتهم غير الإسلاميّة ، معتمدين على الفرص التي تتيحها لهم طبيعة التنسيق والتعاون ، وكذلك أن لا يكون ذلك سبباً
ولو مساعداً في تمكين وتغلغل غير الإسلاميين إلى صفوف المؤمنين ، وإمالة قلوب بعضهم  إلى جانبهم ، أو تشويش عقولهم . 
ثانيها : أن يؤمن الضرر والكيد منهم ، بمعنى ؛ أن لايكون التعاون والتنسيق مع أناس لا يؤمن منهم الكيد والإسائة للإسلام والدين عندما يتمكنوا من ذلك ، فإنّ التعاون والتنسيق مع مثل هؤلاء ليس وراءه إلا الندم والحسرة ، ولذا نجد القرآن بعد أن يحذّر من اتخاذ عدوّ اللّه وعدو المؤمنين أولياء ، يعلّل ذلك بقوله سبحانه : { إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودّوا لو تكفرون } الممتحنة/2 ، والتعليل الذي في الآية عام يشمل المقام . ومن هذا المنطلق ، يقول الإمام الخميني رحمه اللّه : ( .. وأنبّه إلى أخذ الحيطة والحذر من الرموز المشكوك بهم كالشيوعيين .. لن نقف أبداً مع الشيوعيين حتّى ولو سعوا بإسقاط الشاه . لقد حذّرت أتباعي من هذا الأمر مراراً وتكراراً  ، فإنّنا نفترق عن أولئك كثيراً في الأفكار والمفاهيم والعقائد والأهداف ، نحن نعلم جيّداً بأنّهم سيطعنوننا من الخلف ، وإذا وصلوا إلى الحكم يوماً ما فإنّهم سوف يعيدون الديكتاتوريّة مرّة أخرى ، ويعارضون الإسلام وحقوقه من جديد ) . 
ودعوى عدم التلازم والتسبيب في الأوّل ، والأمن والإطمئنان في الثاني ، دعوى لا تخلوا من مجازفة ، ولا أقل تحتاج إلى دراسة وتأمل ، فإنّ التنسيق له استحقاقاته .


الملاحظة السادسة 
 يطرح البعض قضيّة التنسيق على أنّها توافق على بعض الأمور التي فيها صلاح الناس والوطن ، فتدخل في إطار التعاون على البر والخير . 
وما نلاحظه على هذا الكلام ؛ أنّه بعد مقبوليّته في نفسه ليس تفسيراً للتنسيق بالمعنى الدقيق ، لأنّه لا يفترض سوى مجرد التوافق ، ولا مانع من أن يتوافق موقف الإسلاميين مع غيرهم تجاه قضيّة معيّنة ، ويسعى الجميع خارجاً نحو تحقيقها كلّ بإسلوبه المناسب ، بل لا مانع كذلك من التعاون عمليّاً وعلى مستوى الخارج لو اتّفق الأسلوب كما هو الشأن في الهدف ، لأن هذا نحو تعاون على الخير من غير افتراض أي محذور ، أو التزامات أو استحقاقات . وهذا يختلف عن ما يفهم من مصطلح التنسيق خصوصاً إذا طرح كشعار استراتيجي  ؛ فإنّه حسب ما أفهمه وحسب التصريحات المتعدّدة – يعبّر عن حالة اعتراف بالآخر ، والتزام وتعاهد معه ، ويترتّب على ذلك مجموعة من الإستحقاقات والإلتزامات التي لا ينبغي للمؤمن أن يفترضها على نفسه تجاه غير المؤمن .
فلابدّ إذن من تحديد المصطلح وأبعاده ، حتّى يتضح مركز النفي والإثبات ، لا أن يبقى المصطلح عائماً مشوّشاً ، فإنّ ذلك  ينعكس على الموقف منه كذلك .
وهنا أطرح ما يخطر ببالي من مستويات ومعاني للعلاقة والإرتباط المتصوّرة بين الإسلاميين وغيرهم ، وهو بمثابة المحصّلة لما تقدّم :


المستوى الأوّل 
 الإعتراف الديني بغير الإسلاميين  ، سواء على المستوى العقائدي أو الفكري أو السياسي . وهذا مرفوض تماماً ، وقد عرفت خلال الملاحظة الأولى وجه ذلك . نعم يمكن القبول والإعتراف السياسي – لا الديني – بهم ، ولكن هذا يتحرّك بالطبع في دائرة الضرورات السياسية ، وأسس الحياة السياسية في عصر الغيبة . وهو في الحقيقة تعبير عن التعايش السلمي مع من أراد الصلح والسلام ، والإلتزام بقوانين الحياة المدنيّة ، القائمة على قاعدة الهدنة . قال تعالى : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكّل على اللّه إنّه هو السميع العليم } الأنفال/61 .


المستوى الثاني 
التولّي والمودّة لأعداء اللّه وأعداء المؤمنين ، وهذا أمر مرفوض كذلك ، قال تعالى : { يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة وقد كفروا بما جاءكم من الحق .. } الممتحنة/1 ، والمراد بأعداء اللّه والمؤمنين كلّ من كفر باللّه العظيم ، واتخذ غير الإسلام منهجاً له في الحياة ، فكلّ هؤلاء يدخلون تحت النهي في الآية . ولا يخرجهم عن واقع العداء للمؤمنين مجرّد كفّهم الأذى عنهم في ظرف معيّن ، فإنّهم باقون على حقيقة العداء للدين والمتدينين ، وسوف تظهر هذه الحقيقة بصورة أو أخرى في الوقت الملائم ، قال تعالى :{وإن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودّوا لو تكفرون } الممتحنة/2 . 
لا يقال : إنّ كثيراً من التيارات السياسية التي تتحرك في الساحة هنا أو هناك ، هي تيارات علمانيّة ، محايدة تجاه الإسلام وغيره من المدارس العقائديّة الفكريّة ، فهي تفصل الدين عن السياسة ، وتؤمن بأنّ الدين شأن شخصي ، أمّا بالنسبة للشأن الإجتماعي والسياسي فتؤمن بحاكميّة الإرادة الشعبيّة ( الديمقراطيّة ) . فهي إذاً لا تحمل عداءً للدين أو المتديينين .
لأننا نقول : إنّ هذا ( أي الديمقراطيّة ) هي آخر غطاء يتغطى به الكفّار لمواجهة الدين وحركته في الحياة ، إذ أنّها تشترك مع النظريات المعادية للدين في حقيقة رفض الدين كمنهج للحياة وإطار لحركة الإنسان في الحياة ، وهل يوجد أكبر من هذه الضربة يمكن أن توجّه للإسلام .


ثمّ أين هو الحياد المدّعى عند العلمانيين ؟ ،  فهل ما نسمعه ونراه من تعامل الأنظمة الديمقراطية ، سواء في فرنسا أو تركيا أوغيرهما مع بعض المظاهر الإسلاميّة البسيطة ، كالحجاب .. تعبير عن هذا الحياد ؟ . 
وكيف كان ؛ فتبقى الآية الشريفة الثانية من سورة الممتحنة صرخة مدوّية على مرّ العصور والأزمان ، فإنّ عداء الكفر بجميع صوره وأشكاله للإسلام الأصيل عداء مبدئي وعميق .


المستوى الثالث 
 العلاقة الأخلاقيّة القائمة على أساس البر والقسط .. وهذه علاقة يأمر بها الإسلام مع جميع الناس المسالمين غير المعتدين . وقد أشرنا لذلك في الملاحظة الثالثة .


المستوى الرابع
 العلاقة الحواريّة ، بمعنى الإستماع للرأي الآخر على المستوى السياسي ، وإيصال الرأي الإسلامي له في محاولة لإقناعه إن أمكن ، أو لا أقل إقامة الحجّة عليه . وهذه العلاقة في تصوري غير مرفوضة ، ولكن لابدّ أن تكون دقيقة في اختيار الشخصيّات الحواريّة وأطر الحوار المناسبة .


المستوى الخامس 
 العلاقة التكتيكيّة المحكومة لقواعد الضرورات السياسية ، والمصالح والمفاسد الفعليّة . وهذه العلاقة لا أظن أنّها مورد خلاف ، ولكن لابدّ أن يكون تشخيص الحالات المختلفة لهذه العلاقة موكولاً بيد أهل الخبرة في الدين والسياسة ، لا أن يكون ساحة للإجتهادات الشخصيّة المرتجلة لكلّ أحد .


 وأخيراً أرجو أن تنال مثل هذه القضايا الحساسة في حركة الإسلام السياسيّة ، الدراسة الكافيّة ، ليكون الموقف أكثر نضوجاً ، لا أن تعالج من خلال الخطابات والندوات ، فإنّ القضيّة قبل أن تتحوّل إلى شعار في حركة الأمّة ، لا بدّ أن تمرّ بمرحلة الدراسة المستوعبة . ولعلّ هذه الملاحظات مساهمة متواضعة في هذا الإتجاه .


وفّق اللّه الجميع لما فيه الخير والصلاح . والسلام

... نسألكم الدعاء ...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *