قال جميل: لماذا تعاندني يا قلمي الحبيب وتتمرد عليّ؟

وهل الخصام بينك وبيني وبين الورق؟

قال القلم: لماذا أنت متبلد الفكر وأرق؟ وهل هناك ما يقلقك ويقض مضجعك؟. لا ترمها علي

قال جميل: نعم إنها فكرة الموت والرحيل من مدن الحياة إلى ظلمة الصندوق المحكم الإغلاق لا أنيس ولا رفيق سوى نكر نكير.

قال القلم: أو تكره لقاء الله؟ فمن أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه، ولكني أراك تقف عند دعاء، ما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته. إذن سيطول عمرك يا صاحبي.

قال جميل: لقد فهمتني خطأ يا عزيزي، إن تخوفي مصدره قلة زادي لسفري الطويل، وهل أقنع بركعتين هناك، وصدقة هنا، وصدقة هنا، وصلة رحم هنا، ودعاء هناك، هل هذا كل ما أكلك من رصيد، وقد ذرفت على الأربعين، ومايدريني، هل كانت خالصة لوجه الله عز وجل أم لم تكن؟

قال القلم: حيرتني معك أنت أعرف بنفسك مني.

هل أنت عاشق متم أم مدع مغرم؟ إذا كنت عاشقاً فأخلص في حبك، وإذا كنت مدع فاسلك طريق المحبين أولاً وسوف تصدق عندها في الحب، وتكون بعدها عاشاقاً.

قال جميل: دلني على طريق المحبين كي أستريح.

قال القلم: أفصح لي عن اسم محبوبك أولاً.

قال جميل: الله.

قال القلم: إنها دعوة خطيرة يا جميل فحذار من الإدعاء. وهذا ما كنت أخشاه عليك أخشى أن تكون كاذباً. كثيرون من يدعون وصلا بليلى، ولكن هل تقر لهم ليلى بذاكا؟. وسيفان في غمد واحد لا يجتمعان يا فارس السهر.

قال جميل: ماذا تقصد بتمثيلك هذا؟.

قال القلم: عن رسول الله (ص): حب الدنيا، وحب الله لا يحتمعان في قلب أبداً.

والقلب المستغرق في جمال واحد لا يفكر في جمال ثان.

وعن الصادق (ع): القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله.

قال جميل: وهل الدنيا وحشية إلى هذا الحد؟.

قال القلم: لقد أسأت الفهم يا ساهر، مقصودي هو: أن لا يكون حب الدنيا هو المستولي على صفحة القلب بنسبة 90% والعشرة الباقية لله تعالى، وحتى الموزانة بنسبة 50% بين كل منهما غير صحيحة، وينبغي أن يكون بالعكس هو الصحيح 90 % لله سبحانه والعشرة الباقية للدنيا،  وحتى العشرة التي للدنيا يجب أن يكون لله فيها نصيب: أن تجعل الدنيا مخدومتك للدار الآخرة، لا أن تكون خادماً لها، فتلك إنما هي عبودية. وقد قيل بأن العاشق لا يتلذ بطعام وشراب ولا يهنأ بلحاف ومنام، لأنه هائم الفكر في معشوقه، فهل أنت كذلك وما هي أدلتك؟

قال جميل: صدقت، وعلي أن أعيد النظر في الدعوى من جديد، يجب علي أن أجد الرسول بيني وبين حبيبي أولاً، ولن  أجد أفضل من مركب صلاة السالكين –صلاة الليل- رسولاً بيني وبين حبيبي. ولكني لا أوفق للقيام والناس نيام، فما هي الأسباب؟

قال القلم: نعم ما صنعت، وأما عدم التوفيق فأسبابه بيدك أنت، وبحسب نظري القاصر يمكنني تلخيصها في:

أولاً: ارتكاب الذنب.

ثانياً: مجالسة البطالين من أهل القيل والقال.

ثالثاً: إضاعة الأوقات في المباحات.

      فكر وتأمل، هل يمكنك أن تصمد ليوم واحد بدون ذنب صغير فضلاً عن كبير؟. وكذلك تصادق الصمت، ولا تخوض فيما لا يعنيك؟. وتقلل من المباحات، وتستثمر أوقاتك في المفيد؟. حينها ستوفق للقيام، وهي علامة لإستجابة محبوبك الذي هجرته، وهو لا يستحق الهجر، بل هو الأولى بالوصل من كل حبيب، أليس كل حبيب يحب الخلوة بحبيبه؟!.

وما عسى أن يدور من حديث في تلك الخلوة، سوى بث الأشواق والحنين؟

قال جميل: إن هذا يحتاج إلى الهمة، فأنى لي بها، وقد حجبتني أعمالي وخدعتني الدنيا بغروها، وسولت لي نفسي بخيانتها؟؟.

قال القلم: لا يمكن الحصول على الكنز من غير تعب، فأحفر من الآن في خبايا روحك واقلع من طريقها كل حجر وشوك، واكنس غبار الغفلة عن مرآة قلبك، وساعتها سوف تهتدي لمكان الصندوق المملوء باليواقيت والجواهر النفيسة.

#تسمو روحك نحو الكمال.

# يكثر رزقك وولدك.

# تكن مثله يقول للشي كن فيكون، وتقول للشيء كن فيكون

# تحب أوليائه، وتعادي أعدائه.

# ينكشف همك، ويزول غمك، فلا ترى فاعلاً ومؤثراً في الوجود إلا الله تعالى.

تنتفح لك مغالق المسائل العلمية ودقائقها.

تذكر جيداً: إن الإخلاص في العمل إلى أن ينتهي هو بداية لخرق الحجب، وأن العجب بالعمل رين وسواد على صفحة القلب.

إبدأ باليسير والمهم هو عليه من قاطع الطريق إبليس اللعين، ثم تدرج شيئاً فيشيئاً، والأهم من ذلك أن تكون لديك روح الإقدام، ولو لليلتين في الإسبوع، وإذا رأيت الإنبساط وخفة الروح، فأعلم بأنك قد طويت المرحلة الأولى من رحلة السير والسلوك إلى حبيب قلوب الصادقين.

إنها ساعة واحدة فقط، ثم تنام قرير العين، وتزول عنك أحلام الكابوس، ويفارقك الأرق راغماً عن أنفه، وعليك بمراعاة طهارة الباطن قبل طهارة الظاهر.

طهر القلب أولاً من درن المعصية، ثم طهر موضع نومك ثانياً من النجاسات الظاهرية.

قال جميل: وهل يدعني الإخطبوط الثلاثي (الشيطان، النفس، الدنيا) لحالي، وقد قعدوا بكل مرصد لمن هو أرقى مني؟

قال القلم: بالتأكيد لا يا صاحبي، فهم في كر وفر معك إلى حين إهالة التراب عليك، أما الشيطان الرجيم فقد أقسم بعزة الله (فوا عزتك لأقعدن لعم صراطك المستقيم) فهو يشقي المؤمن بالذنوب، ويتبعه المؤمن بالإستغفار.

وأما النفس فدواؤها عدم الترئة (وما أبريء نفسي).

وأما الدنيا فالمذموم منها ما كان في معصية الله سبحانه، وأما المحمود فالجعل منها مزرعة الآخرة إن هذا الإخطبوط قد لازم الأنبياء والأولياء قبلك، فعليك بمعية الله في جميع شئون حياتك.

قال جميل: وما معنى معية الله يا فارس الكلمات؟

قال القلم: أشكرك على اللقلب الجديد، ومعنى معية الله تعالى هي:

أن يكون الله حاضراً عندك في جميع حركاتك وسكناتك (وهو معكم أينما كنتم) يكون حاضراً في الإجتماع والخلوة، في السر والعلن (ثم ينبئكم بما كنتم تعملون) في الطاعة معك يسددك، وفي الهم بالمعصية يحذرك. والناس يختلفون في هذه المسألة، فمنهم من سادر في غيه وغفلته، وهو صاحب القلب المنكوس، ومنهم من ينتبه بعد سبات، وهو الذي يرجى له الصلاح، ومنهم من هي له ملكة وهم أوليائه وحججه.

قال جميل: هذا معناه أن تتعطل جميع شئون حياتي، فصرف التوجه إليه سبحانه يعني صرف الغيبة عن الأغيار، من الزوجة والأولاد وكل الناس؟

قال القلم: هذا من الخطأ الفاحش في المفاهيم يا عزيزي، إذ لا منافاة بين المعية وبين تدبير المعاش، وخدمة العيال والخلق، ولو كان كذلك إلى حيث ذهبت، لقعدت معية الله عز وجل بالأولياء (ع) عن أداء رسالاتهم، ولتعطل الكون وساد ذلك الحب هو الحبيب الأول وهو الآمر به، وكذلك بغض أعداء الله والشيطان والدنيا المذمومة مصدره معية الله عز إسمه، ولأنه الآمر به.

قيادتك للمركبة وعيادنك للمريض المؤمن، وأيضاً إغاثة الملهوف وتفريج كربته، درسك في الحوزة العلمية، إجتنابك لأهل المعصية، شراؤك الفاكهة، حضورك مجالس التعزية، قراءئك للقرآن….إلخ  لابد ان تلحظ فيها معية الله تبارك وتعالى.

والرياء والعجب وحب الرئاسة والشهرة في الأعمال الصالحة يجب أن تلغى من قاموس الأعمال فمنها المعية تأتي.

والحمد والشكر على التوفيق للطاعة يجب أن يخالطا قلبك ولسانك، وهنا المعية تأتي أيضاً.

أما معية الأبرار والأولياء فلم أقصدها، أنها مرتبة لا تستطيع الوصول إليها، ولأن معناها الحقيقي هو هيام القلب بكله وكليته في جمال الجميل يا جميل.

إنهم أبدان من الأغيار، ولكن أرواحهم متعلقة شوقاً إلى اللحاق بركب قافلة الأحرار، الذين تحرروا من سجن النفس وأسر الهوى، وأجلوا الفوز باللذات إلى عالم الأنس هناك (الدرة الآخرة).

(صبروا أياماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة)

فأين أنت منهم، أو كما قيل: أين الثرى من الثريا ؟؟!!.

ولكني لا أحبط معنوياتك، إذا كانت لديك الهمة في السير على خطاهم ولو خطوة واحدة.

جرب فلن تخسر على كل حال.

تكبو ثم تنهض، تفغل ثم تستفيق، تشدك الدنيا نحوها، وتناديك الآخرة للإقتران بها.

فأنت في ساحة الوغى في الحقيقة، ولكن ما هي أسلحتك وخططك الحربية للإنتصار في معركة الجهاد الأكبر –جهاد النفس-؟

إن معية الله على المعنى العام (الأول) جيدة بالنسبة إليك كمبتدئ حسب ما أظن, وربما وصلت إلى أو حصلت على المعنى الخاص (الثاني) بطيك المرحلة الأولى من مراحل الجهاد النفس.

قال جميل: وماذا أصنع يا قلمي الناصح بمحنة السهر التي تلازمني طلية عمري؟

قال القلم: قال الله تعالى في القدسي الشريف (يا داوود إن العارفين كحلوا أعينهم بمرود السهر).

فهل أنت من العرفاء، وما هو كحل عينيك، وما هو مرودك؟؟.

هيا قم وناج  الحبيب في الخلوة، واكحل ناظر قلبك بمزيد معرفته بمرود صلاة العارفين، وارتشف منم عين كأس الوصل شربة تروى ظمأك.

أو لم تتعب من هذا التركاض الممل خلف صارعة العشاق؟ََ!.

أو لست المردد بينك وبين نفسك على الدوام: ما تساوي الدنيا كلها قبال شعرة واحدة من رأس أدنى حورية من حوريات الجنة، والتي تنادي المؤمن ليل نهار…هلم…أقدم…تعال إلى الخضن الدافئ، فنحن مشتاقون للطلعة البهية؟؟؟؟.

إنه صبر ساعة في هذا السجن، وبعدها تتحرر روحك من سجن بدنك، ثم الرواح والراحة، والإرتشاف من كأس حوض الكوثر من كف الولي علي.

سيدنا: هل يوجد فرق بين كأس الزعفران الشفاف الذي صنعته يدك بجهد جهيد وتلذذت به دقيقة، وبين كأس عين السلسبيل الوارد في سورة الدهر المباركة، الذي تود الحصول عليه، أو لا يوجد فرق؟؟.

الكأس الأولى لذتها دقيقة واحدة، وبعد تعب في التحضير. والكأس الثانية لذتها خالدة دائمة وبعد تعب في الأعمال.فكرة جيداً، فلم يبق من أوراق شجرة عمرك الذاوية سوى بعض وريقات، وبعدها تهب عليها سوافي رياح المرض والموت الأكيد.

ما عدد تلك الوريقات؟

فلنقل أنها مائة على أكثر التقادير.

إنها قليلة كذلك، ما دام هادم اللذات، ومفرق الجماعات بالمرصاد.
(حميدة، هاشمية، محمد تقي، على نقي) ستفر منهم ويفروا منك.

(يوم يفر المرء من أمه وأبيه وصاحبته وبنيه)

وما أنت إلا عامل بائس في الواقع لهذه العائلة المحترمة، فماذا عملت لنفسك؟

هل إذا احتجت إلى حسنة واحدة إذا سيعطونك إياها؟! بالتأكيد لا.

إذن أحرص من الآن أن لا تحتاج إليهم، ويزداد ذلك على ذل.

حسناً كن خادماً لهم بفخر واعتزاز، ولكن كم في ذات الوقت سيد نفسك، واطلب خلاصها ما دام قلبك ينبض، وأنفاسك تدخل وتخرج.

والآن خذ قسطاً من الراحة يا أيها الأرق القلق، وتأمل فيما سطرته لك من بيان، لعل الله يمن عليك بالنوم الأبدي وترتاح من أرق نوم الدنيا، ومن الدنيا بالمرة.

قال جميل: هيهات…هيهات… أنا أودعك الوداع الأخير، وأشكرك على حسن أدبك وبيانك لا بد لي من رجعة ووقفات معك حتى آتي على آخر قطرة من مدادك الرائع.

قال القلم: أتمنى أن لا يطول الفراق … وهيا دثرني بغطائي وأطفئ السراج لننام.

أنا سوف أنام، وأنت قم وصل للحبيب ركعات، وبعدها تدبر في سورة الإنسان، وتجول في آياتها هنا وهناك، ودع عنك كيفية الانتصار على الآدميين، فلم يبق من العمر شيء بعد لاختلافهم.

هناك ثلاثة أعداء (ثالوث) النفس، الشيطان، الدنيا، إذا تمكنت من الإنتصار عليهم فهو النصر الحقيقي.

وهل تكفي هذه المدة المتبقية، والتي علمها عند الله تعالى في إلحاق الهزيمة بواحد منهم على الأقل؟

تمنياتي لك بنوم هادئ، وقلب أبيض ناصع كالحليب، لا يحقد على أحد سوى الكافرين والشيوعيين الملحدين.

لا تنسق يا جميل: يجب أن يكون حقدك شرعياً.

والسلام

6/5/2002ميلادي

الثانية والنصف بعد منتصف الليل

... نسألكم الدعاء ...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *